مراتب الناس في التلذذ بالصيام:
أخي الكريم، أختي الكريمة: الناس في التلذذ بعبادةِ الصيام على ثلاث مراتب:-
المرتبة الأولى: صيام العامة
وهو الصيام عن المُفطِّرات من طلوع الفجر إلى غروبِ الشمس، أما المُحرَّمات فإنه لا يصومُ عنها، فهو يغتاب، وينظرُ إلى المحرمات، ويُصلي الصلاة بعد أن يفوتَ وقتُها، يصلي الفجر مثلًا بعد أن تطلُعَ الشمس، وربما الظهر بعد أن يؤذَّن العصر، وهكذا. هؤلاء غالبًا لا يُحسِّون بلذة الصيام. فمَن قال أنَّ الغاية من الصيام هي إيقاف الطعام والشراب فقط؟! هذا غيرُ صحيح. النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يقول "مَن لم يَدَعْ قوْلَ الزورِ والعملَ به والجهلَ، فليس للهِ حاجةٌ في أنْ يَدَعَ طعامَه وشرابَه"صحيح البخاري الغاية من الصيام هي: أن تزيدَ عندنا التقوى، لا أن نستمرَ بنفسِ المعاصي التي كُنَّا عليها، قال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" البقرة:183
عدم الامتناع عن المحرمات يُنقص من أجر الصائم
ولهذا فإنَّ الصائمَ الذي يمتنعُ عن المُفطِّرات ولا يمتنعُ عن المُحرَّمات ينقصُ من أجرِه بحَسَبِ ما فعلَ من المُحرَّمات، فإن زادَ في المُحرَّمات أكثر نَقُصَ أجرُه أكثر. بعضُ الناسِ من كثرة المُحرَّمات التي فعلها في صيامِه فإنه لم تبقَ له ولا حسنة واحدة! قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- "رُبَّ صائِمٍ حَظُّهُ منصِيامِهِ الجوعُ والعَطَشُ" صححه الألباني، أي أنه لم يحصل على أجر. هل هذا يعني أنَّ صيامَه باطل؟ لا، صيامُه صحيح لأنه لم يفعل أيَّ مُفطِّرٍ من المُفطِّرات فلا يُطالَب شرعًا بإعادة الصيام، ولكن موضوع الحسنات هذا شيء آخر؛ لأنه إذا كان الصائم قد منعه الله تعالى من الأشياء التي كانت مُباحَة عليه قبل الصيام كالطعام والشراب، فكيف يتساهل في الأشياء التي هي في الأصل مُحرَّمة عليه حتى قبل الصيام؟! فهل المقصود ترك المُفطِّرات فقط؟!أبدًا، قال ميمون بن مهران"أسهل الصيام هو ترك الطعام والشراب"، ويُروَى أنَّ أبا هريرة -رضي الله عنه- قال "الغيبة تُخرِّق الصيام، والاستغفار يُرقِّعُه، فمَن استطاعَ منكم أن يجيء بصومٍ مُرقَّع فليفعل"
المرتبة الثانية: صيام أهل اليمين
وهم الذين يصومون عن المُفطِّرات، ويصومون عن المُحرَّمات أيضًا، فتصومُ بطنُه وتصومُ جميعُ أعضائه أيضًا، العين تصوم عن النظر، اللسان يصوم عن الكذب والاستهزاء والشتم والمُجادلة وعن الغِيبة والنميمة، حتى الآذان تصوم عن سماع الغِيبة والنميمة وعن سماع المحرمات، هؤلاء يُحسون بلذة للصوم، لذة جزئية، فصيامهم صيام أصحاب اليمين، وهم الذين ينطبقُ عليهم حديثُ النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عندما قال "مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِه"صحيح البخاري
المرتبة الثالثة.. أعلى مراتب الصوم:
أما أعلى مراتب الصوم وأكثرُه سعادة ولذة فهو الصومُ الذي يصومه "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ" الواقعة10: 14، إي والله قليل من أهلِ هذا الزمان يصومون بهذا الصيام، وهم الذين يصومون عن المُفطِّرات وعن المُحرَّمات ويصومون عن المُباحات أيضًا،فيومُهم كلُّه مُستحبَّات، فهؤلاء لا ينامونطوالَ اليوم، لا يلعب الكرة طوالَ النهار، لا يجلس في مَجالس الحديث، تضييع الأوقات فقط من أجلِ أن ينسى جوعَ الصيام، بل إنهم يستغِلُّون كلَّ لحظةٍ في المُستحبَّات من أذكار، قراءة قرآن، دعاء، استماع للدروس النافعة والمواعظ الطيبة، بدلًا من مشاهدة ما لا ينفع طوالَ النهار. فإذا كان النوع الأول تصوم بطونهم عن المُفطِّرات، والنوع الثاني تصومُ أعضاؤهم عن المُحرَّمات، فهؤلاء يصوم ميزانُهم من أن يتوقف عن الحسنات، فحسناتُهم مستمرة حتى لو فعلوا أيَّ مُباح فإنهم ينوون به التقَوِّي على طاعةِ الله فيتحوَّل من مباح إلى مُستحب، فتجدُهم يستشعرون المشاعرَ التي ذكرناها أول الحلقة فتزيدُ حلاوةُ صيامِهم على ما هم عليه من حلاوة.
الخاتمة إذا أتقنتَ هذه المشاعر وتفكَّرتَ فيها وتأملتها ثم عملت بها فسوف يتغيرُ كلُّ شيء، فبحسب ما عندك من مشاعر تجاه ربك وأعمال قلبية يكون تلذُّذكَ بالصيام، وإلا فهل تظنون أنَّ الفردوسَ الأعلى يدخلُها كلُّ إنسان؟! نعم الجنة كثيرٌ مَن يدخلُها، أما الفردوس الأعلى، لا، لا يدخلُها إلا نادِرون، وأنا متفائل بأنك ستكون منهم أخي الكريم، وأنكِ ستكونين أيضًا منهم أختي الكريمة بإذن الله تعالى. أسأل اللهَ أن يجمعني وإياكم في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقًا. اللهم آمين. والحمد لله رب العالمين.
تم بحمد الله